ما بين(أخلاق العرفاء...) و (أخلاق البسطاء... )

للكاتب السيد جعفر رضي العبدالمحسن


يٌروىَ أن الخليفة العباسى "المتوكل" كان عنده طبيب خاص و مترجم عريق إسمه "حنين إبن إسحاق". طلب منه المتوكل ذات يوم أن يصنع له سم قاتل و فتاك حتى يقتل به أي عدو سرا و بسهوله. رفض ذلك الطبيب هذا الطلب رفضا قاطعا مما أدى به الى السجن مع التهديد بالتعذيب أو القتل فى أية لحظه.

بعد قضاء مدة سنه فى ذلك السجن، استدعاه المتوكل مره أخرى و وضع أمامه سيف و أدوات التعذيب فى إحدى الزوايا بينما فى الزاوية الأخرى وضع فيها أموال و هدايا. قال له لك الخيار، بين طاعة الخليفه فيما أمر و كسب الأموال الهدايا أو بين العذاب و القتل شر قتله. أصر "حنين بن إسحاق" على موقفه الرافض من أن يبيع ضميره و يصنع ما يقتل أي إنسان كان [بينما] واجبه المهنى و الأخلاقى أن يعالج الناس ويداوى أمراضهم. يقال ان المتوكل قد عفى عنه لاحقا و أخبره أنه كان يريد إختبار أمانته.  

لماذا إتخذ ذلك الموقف؟؟؟

لماذا رفض ذلك الطبيب أمر الحاكم رفضآ قاطعا حتى و لو كلفه التعذيب بل و حتى الموت وخسارة حياته فى سبيل دفع ضرر عن آخرين لا يعرفهم ؟؟؟ كان يعلم أنه لن يتم إستخدام ذلك السم ضد أي أحد من أقاربه أو قبيلته أو طائفته لكنه إختار صُنع الأمانة فحسب و التعامل مع الإنسان كإنسان.

هذا الموقف من ذلك الطبيب ( وغيره كثيرون ) من أفضل الأمثلة على جوهر الوجدان النقى و سمو الروح و منتهى الأخلاق و أساس العرفان و هذا ما يعبر عنه بأخلاق " العرفاء".

أخلاق العرفاء؛

أخلاق العرفاء هى كل التصرفات ((الحره)) و النابعه من داخل روح الانسان و يكون هدفها الخير و الحب المطلق للغير بدون أدنى أنانيه أو حب للنفس أو توقع أي مصلحه أو منفعة ذاتية. إحقاق الحق و نشر الفضائل و القيم (فقط) لانها فضائل و قيم هو هدف "العرفاء". الغاية و المنطلق هو حب الغير و قضاء حاجاتهم أو دفع الشر عنهم دون توقع أي مردود. الأنبياء و الصالحين و كل إنسان على هذه الأرض يعمل بهذا المبدأ هو من "العرفاء".

أخلاق البسطاء؛

[بينما] أخلاق العامة "البسطاء" هى تصرفات أخلاقيه حسنة تنفع الناس (( لكن )) هدفها المصلحه الشخصية و الذاتية حتى و إن كان غرض صاحبها أن يحصل على الثواب أو الجنه. طالما كان هدف الفعل نفسه " ليس" فى ذات الفعل أو العمل، فهو أقل درجة، كمن يبنى مستشفى لعلاج للناس لكن يسميه بإسمه حتى يُذاع صيته.
    

** الأصل هو عمل الخير ل ( ذات ) الخير؛

الأديان و الشرائع السماوية جائت متتمه و مكمله و موسعه للأخلاق " العرفانية " التى هى موجوده أصلا فى جوهر الانسان ثم وعدت بإعطاء الجزاء و المثوبه و الحسنات لمن يعملها كنتيجة تلقائية و ليس كهدف. الثواب و الجزاء سيأتيك تلقائيا من عند الله [بينما] عند العوام "البسطاء" الثواب هو هدف "بحد ذاتة ". مفهوم الأخلاق العرفانية هو مفهوم قرآنى لقوله تعالى : {     إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا } : وجه الله هو ذات الخير المطلق.

عندما تجد أمامك منزل تلتهمه النيران و بداخله أسره محاصرة و هى على وشك الهلاك، فورا ستنطلق من دوافع انسانيه بحته لتنقذ هذه الأرواح دون أدنى تفكير فيما ستحصل عليه من ثواب أو سمعه بين الناس أو أي جائزة أخرى. ردة فعلك المباشره و فى نفس اللحظه هى لدوافع إنسانيه و لن تسأل سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

{ طالما كان الهدف من الفعل (( موجود فى نفس ذات الفعل و بدون توقع أي منفعة شخصيه ))، ذلك غاية السمو العرفاني. }


** الفضائل لغه عالمية موحدة؛

جميع الفضائل و القيم هى لغه عالمية كونية وليست محصورة بمكان محدد أو ثقافه محددة. لذا فهى مطلوبة فى كل مكان لأن العقل و الفطرة و جوهر وجدان الانسان يدل عليها.


التعامل باليد اليسار مثلا هو أمر غير مستحسن عندنا لكنه ليس بالأمر الغير أخلاقى و يعتبر تصرف طبيعى فى أماكن أخرى. [ بينما ] لو سألت أي شخص فى أى بلد فى العالم عن الكُره و البُغض و الأنانية لأخبرك أنها صفات مذمومه غير مرغوبة. أيضا طلب العلم لخدمة الانسان و إتقان العمل و العدالة و البذل و العطاء و التعايش مع الأخر المخالف هى صفات أخلاقيه عرفانية مطلوبه حاليآ فى جميع أنحاء العالم [ بينما] تركيز "البسطاء" موجه فقط نحو الأخلاق بالمفهوم الدارج الضيق المشهور. بل حتى و إن وجدت نبته أو زهره صغيرة فى الطريق و سقيتها الماء مثلا فهذا من الأخلاق الوجودية و تتجلى فى فعلك صورة الحب لهذا الكون و العالم فى أفضل شكل، كحب الأم المطلق تجاه أطفالها!!


** ما بين  (أخلاق العُرفاء)  و  (أخلاق البٌسطاء):

الفروقات و التباين:

١) الدافع الأساسى للبسطاء هو تحقيق مصلحة ذاتية للشخص نفسه مهما كانت غاية أو هدف تلك المصلحه [ بينما] صاحب الأخلاق العرفانية لا يريد أي شى فى المقابل و يبتعد تمامآ عن كلمة " أنا " لأن مصدر كل شر هو (( الأنا )) الذاتية.

٢) "البسطاء فى الأخلاق" يكره المخالف له فى الرأى ضنآ منه أنه يعمل أمر أخلاقى يٌرضى الله بل أنه حتى يقتل الأخر أحيانا فى سبيل الله وفقا لليقين الأعمى الذى يؤمن به [ بينما ] كره و بُغض الأخر بدون سبب يتناقض كليا مع العرفان و الوجدان الإنساني.

٣) أيضا من يعمل عمل خير و يقصد به منافع أخرى يكون هذا فى عداد النفاق و الازدواجية  [ بينما ] يفترض البعد تماما عن النفاق لأنه من أسوأ الأخلاق.

٤) إذا كان هدف الشخص من الأخلاق الحسنة هو تحصيل الحسنات لا غير ( كما يظن )، فإنه فى تلك الحالة يعتقد أنه من الممكن جدا أن يكفر عن أخلاقه السيئة بمجرد إستغفار أو صدقة أو أي عبادة أٌخرى سهلة كنوع من التعويض  [ بينما ] لا يقبل العرفاء بأي تعويض عن سوء الخلق سوى حسن الخلق. تكمن المشكلة أن هذا النوع من التفكير  يُخفِض مستوى الأخلاق فى المجتمع لأن أي شخص يستطيع أداء العبادات بينه و بين نفسه بسهولة لكنه لا يستطيع ترك كبريائه و الشروع بحب الناس و قبولهم أو مسامحتهم.

** العدالة و التسامح و قبول الأخر هو غاية الأخلاق العرفانية فى العصر الحاضر!!

الحساسية و عدم التعاطف أو الشماتة ضد أى مجموعة أو طائفة أو شعب إذا حصل لهم مكروه بسبب إنك لا تنتمي إليهم هو نوع من الأنانية حتى لو كنت تظن أنهم على ضلال. المفترض هو أن ينظر الإنسان للبشريه كلها بعين واحده و يترك الازدواجية فى المعايير بإن يُفضّل طائفته و يحزن لمصابهم و يتحدث بالمعايير الإنسانية إذا كان الموضوع يخصهم فقط [ بينما ] لا يكترث إذا حصل أمر مماثل لغيرهم بل و يعتبر بأنهم يستحقون ما أصابهم من مكروه.

الأخلاق العرفانية تقتضى أن تتجرد من مسبوقاتك و ميولك لهذا الطرف أو تلك الطائفه وتتعامل مع البشر الأبرياء بوتيرة واحدة فى كل الحالات. تحقيق هذا الهدف يجلب العدالة للمجتمعات و من ثم السعادة و الديمومة فى البقاء.

لم تعد الحقيقة واضحة كما كان يُظن فى السابق.  أصبح من الصعب معرفة من الظالم و من المظلوم فى أي نزاع بشرى، لذا الموقف الإنساني و الأخلاقى لأي متضرر و منكوب بسبب النزاعات لا بد أن يكون موجود و مستمر مهما كان السبب من ذلك الصراع ومن هو المصيب أو المخطئ سواء كانوا جماعات أو أفراد.

النزاعات كانت و ستبقى بين جميع البشر بسبب تضارب وتداخل المصالح و شُح الموارد المادية وعدم وضوح القضايا و تعقيدها مع الزمن. المتمسك بالأخلاق العرفانية على وعى بهذه الحقيقة و ( يُحب الطرفين على السواء و يتمنى لهم الخير) لأن هذا هو جوهر نفس و روح الانسان الزكية بعكس الجسد ذو الدوافع المادية و المصالح.

** إقتباسات :

يقول أفلاطون: " النفس أو الروح أسمى من الجسد، النفس هى الحاصله على الوجود الحقيقي و الأزلى، و ما وجود الجسد إلا وجودا ثانويا عرضيا لان الروح هى الأصل ....... الجسد هو الذى يحمل القوى الروحيه النبيلة لكن هو أيظا الذى يوجهها نحو الشرور و الآثام"......  

يقول المفكر أوشو: " التسامح يعنى أنك تجاوزت حاجات الجسد و تحررت من عبوديته و أصبحت أنت سيد نفسك و صرت تتصرف بوعى غير خاضع لقوى خارجية تحدد قراراتك"......

و كما يقول الشاعر أحمد شوقى فى أبياته الخالدة فى ربط الأخلاق ببقاء و ديمومة الأمم:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ...
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه …
فقوّم النفس بالأخلاق تستقم.


**** قمة العرفان للإنسان مهما كان:

منظمة "أطباء بلا حدود" هي منظمة طبية إنسانية دولية مستقلة تقدم الرعاية الطبية إلى الشعوب المتضررة من الأزمات بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماء السياسي. تجدهم فى مناطق الصراعات و الأوبئة و الكوارث دون ان يكترثوا بالسمعة أو المادة و يقدمون المساعدة دون أن يطلب أحد منهم ذلك ويعرضون أنفسهم للخطر. يساعدون الإنسان فقط لكونه إنسان فكانوا فعلآ (من) أقرب الناس لِما كان يفعله شخص عاش قبلَهم بقرون إسمه " حنين ابن إسحاق" !!!!