يرثك وهو ليس من ولدك

(يرثك وهو ليس من ولدك...)...

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ......)

عند الموت تنتزع روح الإنسان ولكن أيضا تنتزع منه أمواله وممتلكاته وحتى ثيابه ومقتنياته ..وتتبين لنا عند الموت كما ذكرت الآية الكريمة حقيقة ملكية الإنسان في هذه الحياة. ..فهي ملكية منقطعة وليست دائمة...مؤقته وليست مستمرة. .
ولكن لمن تنتقل هذه الملكية المؤقته وهذه الأموال المختزنة. ..؟

في العادة يكون هذا الإنتقال سلسا للأبناء فهم الورثة . ..
ولكن في أمريكا وأوروبا ربما الأمر يختلف بعض الشيء. .فحتى الدولة لها حصة ونصيب فيما يورثه الإنسان من أموال وبنيان. .فهناك ضرائب على أموال الميت وتركته...ولهذا نجد حال بعض الأغنياء عندما تقترب ساعة الرحيل ساعة الموت... تراهم في حيرة من أمرهم. ..تراهم يبحثون عن الدول الأقل ضرائب عليهم ليموتون فيها...لعل الأبناء هم اﻷحرص من آبائهم في البحث عن هذه الأرض المقدسة والأماكن المطلوبة طمعاً في المال....وهناك ممن قابلتهم ممن يتفهم هذه الضرائب. ..فهو يفسرها على أنها حصة المجتمع...إنها حصة محقة للمجتمع ....فكما للأبناء حصة في أموال آبائهم فمن حق المجتمع أن تكون له حصة عادلة. ..ولكن بدل أن تذهب هذه الحصة من الأموال لقضاء صلاة وأداء حج وقراءة قرآن. ..فإنها تذهب لخدمة المجتمع. ..تذهب لبناء مدارس وطرق ومستشفيات. . 
وجهة نظر معتبرة. ..!

 وفي بعض الأحيان حتى الحيوانات تشارك الأبناء في تركة الآباء. ..
فربما كلب عزيز أو قطة عزيزة كانت أكثر وفاء من الآبناء. ..لازمتهم في فراش المرض آنستهم في وحدتهم. ..طردت عنهم وحشة المرض وقساوة الوحدة. ..
( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ)...
إليس من حق هذا الكلب الوفي أو هذه القطة الوينسة أن يذكره صاحبه أو يذكرها صاحبها بجزء من ماله يحفظ لهم حياة كريمة من بعده. .

ولكن هناك حالات أخرى خارج هذا التصنيف. .. ففي بعض الأحيان هناك من الورثة من هم غرباء على الإنسان.. يشاركون الأبناء في الورث من غير نسب. ..أو قرابة..

إلتقيته صدفة في بيت أحد الأصدقاء. ..عندما دخل علينا ونحن نستعد للجلوس على مائدة الطعام. ..قال صديق لي كان يجلس الى جانبي...هذا الإنسان تحبه ولكن لا تريد أن تراه. .
إلتفت إليه مستغرباً من كلامه...لم ينتظرني حتى ابوح بما عندي. ..
قال لي هو طبيب مشهور في أمراض السرطان. ..
كان خفيف الظل ودائم الإبتسامة...طيبة في مقابل خبث المرض الذي يتكفل بعلاجه. يحق لهذا الإنسان الطيب جدا أن يتخصص في معالجة اخبث الأمراض التي تصيب الإنسان بل أشدها خبثا. ..
فياليتنا في كل الأحيان نعالج الخبث بالطيبة. ..ونعالج الفشل باﻹصرار على النجاح. ..والحزن بالفرح. ..والظلمة بالنور. .والجهل بالعلم والثقافة. .واﻷنغلاق على أنفسنا باﻷنفتاح على بعضنا. ..
درس الطب في العراق ومارسه في أمريكا... خدمه بلده وهو الآن يخدم بلدا آخر. ..هذا هو حال بلداننا ...ولادة ولكن لغيرها. .الملامة على بلدانهم لا عليهم فبلدانهم هي التي زهدت بهم...

دار الحديث بعد العشاء عن موضوع فهم الدين. ..صار هذا الموضوع حديث الناس بعدما سمع الناس بتلك الدراسة التي تحدثت عن هجرة الشباب لدينهم الإسلامي...قالها واحد من الحضور. ..اقبلوها مني أو لا تقبلوها... (ديننا لم يعد مقنعا للجيل الجديد من أبنائنا. ..)
كلمة استفزت الحضور. ..العادة أن يوجه اللوم إلى الشباب لا إلى الدين. ....فما بال هذا الدين حتى عاد غير مستساغا في نفوس أبناء الجاليات المسلمة في أمريكا....حجم القلق كبير عند الآباء والأمهات على مستقبل أبنائهم. ..
كان الإتفاق أن نستكمل حديثنا في ضيافة الدكتور السرطاني في بيته في نهاية الأسبوع وهذا ما كان. .
أقبلنا على بيته...كان عند الباب في استقبالنا. ..رحب بنا. ..
كان قصر وليس بيت. ..وكان جنة وليست دنيا. ..ادهشنا هذا القصر بوسعه وجمال تصميمه وديكوراته. ..وادهشنا أكثر موقعه الجميل. ..فهو يطل على بحيرة تحيط بها الأشجار وتقف على ضفافها المراكب الفخمة .....الداخل والخارج مبهر بجماله الباذخ. ..
قلنا له ما أجمل هذا البيت المبارك. ..إبتسم بوقار كعادته...ولكن هذه المرة قال كلام استوقفني كثيراً. ..ماذا قال؟
قال بنيت هذه البيت من أموال الناس. ...
فأنا اشارك الكثير من الناس في ميراثهم ﻷبائهم. ...
فالسرطان وهو الذي يسمى بالعربية اﻷكال. ..فهو لا يأكل صحة الإنسان فقط بل يأكل حتى أمواله. ..يلتهم أموال الإنسان قبل أن يموت. ..بالأحرى تنتقل إلينا نحن معاشر أطباء السرطان. ..فنستغني بفقرهم. ..
يأتون لنا وهم على إستعداد ليقدموا بين أيدينا ما يملكون من أموال طلبا وتوسلا منا حتى نمد في أعمارهم ولو لسنين قليلة. ..نعدهم ونمنيهم ولكن في الكثير من الأحيان تكون سلطة المرض وفعله أقوى من اقوالنا وأكبر تمنياتهم. ..
كنا... (وهذا هو قول الدكتور)...نرى الزعل ونرى تلك الحسرة في أعين الأبناء ونحن نعالج الآباء. ..فهم يرون أموال آبائهم والتي من المفترض أن تنتقل إليهم وهي تنتقل لغيرهم....كأنهم يقولون في حديث مع أنفسهم ...الأمل ضعيف في الشفاء فلماذا تضيع حقوقنا وتنتقل هذه الاموال لغيرنا. ..

كنا نستمع إليه بصمت. ..أحسست أن هذا القصر وكأنه تحول إلى مقبرة. ..وكأن هذه البحيرة الجميلة بمائها وجمال اشجارها قد تحولت إلى وحش يريد اﻷنقضاض علي....
هذا هو حال الإنسان... يريد أن يشتري زيادة في عمره ولو لسنة واحدة ...وربما لا تزيد عن خمس سنوات ويقدم ما كل ما يملك ثمنا لذلك. ..يريد زيادة قصيرة في عمره حتى ولو كان مع ثلث او ربع صحة مقابل كل ما يملك. ..
( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)...
تراه يرضى بما يفرضه عليه الطبيب من طلبات. .لا تأكل هذا ولا ذاك ولا ذاك... ..ولا تكثر من أكل هذا...ومع كل هذا لا تنسى أن تأخذ مع طعامك كل هذا الكم الكبير من الأدوية التي هي في العادة تفسد على الإنسان طعامه....
في مقابل ذلك. .. نجد الله يطلب منا بل يتوسل منا ان نقدم ولو القليل من أموالنا في حياتنا لنربح جنة فيها العمر الدائم والصحة الدائمة. ..
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ)...
نحن نتوسل الطبيب ونعطيه ما يريد...والله يتوسل إلينا ونحن نبخل أن نعطيه.. (مجازا فالمال ماله والملك ملكه)..حتى ولو كان قرضا. ...
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)...
الطبيب يوعد ويبيع الأماني ولكن هل الأقدار في كل مرة تتيح الفرصة للوفاء بهذه الوعود وهذه اﻷماني. ..والله يوعد وهو الذي يملك الموت والحياة ومن أصدق من الله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)...ومن أوفى بعهده من الله.... (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا)....
فالإنسان يريد سنوات قليلة زيادة في عمره. ..والله يعده بالخلود. ..فهو لا يريد منه أن لا ينفق على صحته ولكنه لا يريده أن ينسى الآخرة. ..
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ)...
عند الله ليس فقط الحياة الخالدة. ..بل الصحة الدائمة. ..حياة خالدة ونفس مقبلة على الحياة. ..
(لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ)...

ولكن تنتظر الإنسان لحظة ندم عظيمة. ...لحظة خروج الروح. ..هي ليست لحظة خروج الروح فقط بل هي أيضا لحظة خروج الإنسان من غفلته. ..في تلك اللحظة ترفع الحجب ويرى الإنسان الكثير من الحقائق التي كانت مغيبة عنه...
(لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )...
وسيكون ندم الإنسان ثقيل بثقل الحديد. ..عندها يطلب هذا الانسان العودة إلى الحياة لا ليعيش فيها كما كان يطلب من الطبيب. ..بل يطلب العودة ليشتري الآخرة بالعطاء والعمل الصالح. ..
(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ )....
ولكن مع الأسف فلقد جاء الطلب متأخرا. ..فبعد الموت غير ما قبل الموت....
(وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا........)

وهكذا ودعنا هذا الطبيب الطيب.وودعناه ..وهو يقول لنا. ..

(أطال الله في عمر امواتكم. ..)..

دكتور هاشم الصالح

اترك تعليقك

Plain text

  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
صورة التحقق
اعد كتابة الرموز الظاهرة في الصورة أعلاه.

التعليقات

أحد, 11/02/2018 - 10:36م رد

أحسنتم وأجدتم سيّد أبو دعاء.
مقالة تُصيب في الصميم فعلينا دائماً وأبداً أن نُبقي الموت نصب أعيننا في كل فكرة وخطوة وعمل. ولم أَجِد مايجوا في خاطري الآن سوى قول للإمام الحسين عليه السلام:
"إعمل لدنياكَ كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"
وأكثر ما أحزّ في نفسي ذكركم لتهجير أبناءنا من أوطانهم وأراضي أجدادهم ليستولي عليها أقزام وعبّاد المال الذين إن شاء الله سيُكووا بنارها وبالمقابل أبناءنا يهومون على وجوههم ببلاد الأجانب يجاهدون ويتحمّلون المرّ من جرّاء الأجواء العنصرية الجائرة المحيطة بهم ويبرعون ويتفوّقون ولله الحمد.
دعائي لكم بالمزيد من العلم والمعرفة كي نستزيد من علومكم كلما زرتمونا في أميركا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

خميس, 08/02/2018 - 12:08ص رد

بهذا الرؤية سيدنا العزيز ...... لااظن ان الانسان يحتاج الى لحظة موته ليكن بصره حديد ....
بهذا الفكر حبيبنا الغالي ....... سينطلق الانسان في كل لحظة في حياته بعطاء اكثر
ولن يدع احد يرثه في اخر حياته لانه سيكون مرحبا بالانتقال الى الموت كما قال امير المؤمنين ( فزت ورب الكعبة )
شكرا لك سيدنا الحبيب على هذالطرح المبدع

أربعاء, 07/02/2018 - 9:01م رد

مقال هادف و مربي و موجهة لبوصلة الانسان الواعي لقادم الخطوات في حياته .. شكرا لهذا المقال سيد هاشم .. انه بحق موقظ للغافلين ....و نتطلع لروح التفاعل من قطاع عريض في الوسط الاجتماعي مع مضامين هذا المقال

أربعاء, 07/02/2018 - 6:13م رد

أحسنت ابا محمد

سبحان الله دائماً قلمك وفكرك متجدد كروحك العذبه التي عندما نلتقيها تملئ المكان جمالاً وحيويةً

(( فقلمك اليوم حديد))
حفظك الله يا ابا محمد

أربعاء, 07/02/2018 - 6:06م رد

بوركت وأبدعت

أربعاء, 07/02/2018 - 5:33م رد

حفظك الله واعطاك الصحة والعافية والعمر المديد
وزادك نورا وعلما