العيد: (هل زادت إنسانيتك رسوخا وتألقا)....
العيد: (هل زادت إنسانيتك رسوخا وتألقا)....
(الإنسان هو أسير فكره وفهمه وقناعاته).....
الفرح كقيمة شعورية وإحساس نفسي له طبقات وله أعماق ويختلف الناس في طبقات أفراحهم. فهناك من الناس من لا يلامس فرحهم إلا السطوح والطبقات القشرية من نفوسهم، فهم يأكلون ويشربون ويلعبون ويمرحون في عيدهم ويأخذون من كل هذه الممارسات متعة جسدية لا تهتز لها النفوس في أعماقها. فالإنسان هو أسير فكره وفهمه وقناعاته،
وهناك من الناس من يتعمق فهمه لشهر رمضان فينعكس ذلك عمقا في فرحه بالعيد. فهؤلاء الناس يفهمون شهر رمضان على أنه مشروع للعودة بأنفسهم إلى إنسانيتها كما خلقها الله والعيد ما هو إلا محطة في الطريق للاحتفاء بهذه العودة إلى الإنسانية. ففي العيد تكون الفرحة الحقيقية بعودة جزء من إنسانيتنا وبهذه العودة المباركة التي تحققت بفضل شهر رمضان تستطيع نفوسنا أن تنفتح أكثر وأكثر على النور الإلهي الموجود في داخلنا.
الفرحة الحقيقية في العيد هي عندما نصبح أكثر إنسانية من قبل. فالغاية المرتجاة من الصوم قد كشف عنها القرآن الكريم بكل وضوح، *(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)* فالصوم هو مشروع للتقوى وهل هناك كلمة ثقيلة في الميزان بمثل التقوى تدفع بالإنسان إلى الارتقاء أخلاقيا وقيميا. ففرحة الإنسان المؤمن الواعي بنفسه وبحقيقة الصوم في يوم العيد هي فرحة عميقة تمتد جذورها وامتداداتها إلى داخل نفسه، فهو اليوم إنسان اتقى من قبل والتقوى هي قوة نفسية جبارة تجعله أكثر عصمة من الوقوع في الرذيلة والخطأ وممارسة الأخلاق السيئة.
فهو يفرح لأنه يحتفي بنفس هي اليوم بالتقوى أكثر حرية من شهواتها وأكثر صدا لنزواتها وطغيانها.
*(كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ)...*
نعم حتى مع ممارسة الأكل (الذي صار من طقوس العيد) قد تبدأ عند الإنسان حالة الطغيان. ..والطغيان نتيجته السقوط واﻷنهيار... *(فَقَدْ هَوَى)..*
فالتقوى تزيد من قيمة الإنسان بما تعطيه من أحساس بالحرية ...والإنسان الذي صار أكثر انعتاقا من شهواته ونزواته هو أكثر فرحا من غيره في يوم العيد.
وهو يفرح يوم العيد لأنه صار أكثر قوة على قول الحق ومقارعة الباطل، فالمزيد من التقوى يعني المزيد من القوة والقدرة على تجفيف كل منابع الخوف ومصادر الرهبة من غير الله في نفس الإنسان...
فالصوم وما يجلبه من تقوى هو مشروع لهزيمة الخوف عند الإنسان، فالإنسان الخائف هو إنسان ذليل وليس عنده كرامة والتقوى تتكفل باقتلاع هذا الخوف وإعادة الكرامة للإنسان والعيد هو فرحة الإنسان لأنه بات أكثر عزة وكرامة. ...
إن الإنسان المؤمن يفرح يوم العيد لأن أخلاقه ازدادت رقيا وتكاملا. فهو اقتبس من فيوض الرحمة الإلهية وصار أكثر رحمة بنفسه وبالآخرين وكم وكم من الظلم والخوف والقلق ينزاح ويتوارى في المجتمع والأسر عندما تترسخ الرحمة في نفوس الناس. هل يزداد الأغنياء عطفا بالفقراء إلا بالرحمة وهل يزيد احتكار التجار وجشعهم إلا لقلة الرحمة في قلوبهم، وأليس غياب الرحمة يزيد من قسوة القلوب ...والقلوب القاسية هي التي تمهد النفوس لممارسة الظلم وانتهاك حقوق الآخرين وهي التي تقوي عند الإنسان نزعة التسلطن والعلو والتجبر على الآخرين. فالمجتمعات الذين هم رحماء فيما بينهم هم أقل المجتمعات إنتاجا للطغاة والجبابرة والمستبدين وأكثرها استعدادا للقبول بالعدالة الاجتماعية.
وكيف لا يفرح الإنسان المؤمن في العيد وقد تشربت نفسه بالعزة الإلهية، فهو اليوم إنسان لا يقبل الذل لنفسه ولو حورب في طعامه وشرابه فهو سيحارب من يريد إذلاله وامتهان كرامته بالصوم. فالإنسان الذليل هو إنسان مستباحة كرامته ..ومن يرتضي الذل والمهانة لنفسه .ومن يقبل أن تسحق كرامته فهو مخلوق بلا إنسانية وهو بذلك يقبل لنفسه عيشة الحيوانات وهو لا يستحق أن تسخر له الأرض بخيراتها، وهذا هو ربما علة ارتباط تخلف الأمم والشعوب بحياة الذل والمهانة التي تعيشها. فالشعوب الكريمة والعزيزة وإن كانت فقيرة في مواردها تستطيع أن تنهض بنفسها وتتطور وتتقدم علميا وماديا وإداريا وفي المقابل فإن الذل والمهانة تقعد بالشعوب والأمم وتمنعها من النهوض بنفسها حتى ولو كانت بين أيديها وتحت أرجلها خزائن الأرض. فالإنسان المؤمن الصائم يفرح يوم العيد لأنه بات أكثر استعدادا وأكثر تأهيلا للدخول بعيدا في عالم الخير والفضيلة ومن حقه في هذا اليوم أن يدعو الله في صلاته أن يدخله في كل خير وأن يخرجه من كل شر. نسأل الله العلي القدير في هذا اليوم الذي جعله للمسلمين عيدا أن يوفقنا جميعا لنزداد انفتاحا على نوره ورحمته فنزداد بهذا النور تألقا وإنسانية.
*عيدكم مبارك ...وايامكم سعيدة*
اترك تعليقك