المشي... فلسفة وعرفان
((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ))....
(لو كان التأمل في الطبيعة دينا لكان المشي أهم طقوسه)....ربيكا سولنت في كتابها المشي وتاريخ الحضارات. ...
المشي ككلمة لو أردت أن تبحث عن معناها في قواميس اللغة. .لوجدت أن هذه الكلمة ليس لها معنى محدد. .فهي كلمة تعبر عن نفسها..ما عليك إلا ان تمشي لتحس بها وتعرف معناها....
لقد كانت الوجهة أزمير....تركيا....
وحدث ما حدث فى مطار إسطنبول. .اشتغل التفكير. ..فكرة تقود إلى هنا. .وأخرى تجر إلى هناك. .في التفكير هناك وعي يرجع إليه الفكر وهناك اللاوعي. .اللاوعي فضاء مفتوح لا نهايات له..كلما كانت روح الإنسان حرة طليقة نقية كانت قدرة الإنسان أكبر وابعد على الإبحار في هذا العالم.. عالم اللاوعي...هناك في هذا الفضاء المفتوح تنكشف الروح على نور ربها..( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ )....الحيرة ثقيلة على الفكر..متعبة على النفس. .
(قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)....فصرت ابحث. .لم ابحث عن مكان..كنت ابحث عن هداية (يَهْدِنِي)... من ربي (رَبِّي)..فمكثت انتظر...الإنتظار والمكوث سنة من سنن الانبياء. . (فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)....في الإنتظار يختبر الإنسان إيمانه بالشيء. .هناك شيء في الإنسان يجذبه للعجلة. .. ((وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)) ...ولكن آيات الله يطلبها الإنسان بالصبر والتأني. .فالعلم يراد له صبر. ..والعبادة يراد لها صبر...والاخلاق يراد لها صبر..والتغيير يراد له له صبر... (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا)... ولكن ماذا سيحصل عليه الإنسان بالصبر...بالتاكيد ان وراء الصبر شيء عظيم وإلا ما قال الله (وَمَا يُلَقَّاهَا) فالصابر ينتظره حظ عظيم ... (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )....ما هو هذا الشيء العظيم الذي إذا حصل عليه الإنسان كان.. (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)...نعم فالصابر تنكشف له آيات الله. .ولا لقاء مع الله إلا من خلال آياته. ..آيات هي بوابات الدخول للقاء بالله.....
( خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ )....فكان لابد من الصبر للوصل إلى خيار آخر. ..وجهة أخرى. .
( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)....
فبدل أزمير. .كانت انزير. .( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )..
وهذه الانزير هي قرية صغيرة ومرتفعة عن سطح الأرض ولكنها باذخة في جمالها..هي آية من آيات الله .تحس وانت فيها كأن السماء أقرب لك من الأرض. .ينتابك شعور وانت تنظر الى السماء في الليل بأن النجوم قريبة جداً منك ..لو مددت يدك لمسكت واحدة منها. ..على سفوح جبالها تصنع السحب لتحملها الرياح إلى مستقرها. .فهناك في مكان ما من ينتظر رزقه منها. ..
( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ )...هل سنخرج من قبورنا ونصعد كما تصعد هذه السحب تحملنا ملائكة كملائكة الرياح. ( كَذَٰلِكَ النُّشُورُ)...الله أعلم
وأنت تتأمل هذه السحب... وكلما مرت بك واحدة منها تجدها تقف عندك قليلاً لتحييك بتحية ما احسنها وأرقها ثم تواصل طريقها.... ..وعندما تقف السحب ﻷداء تحيتها تشعر بأن السماء كلها وقفت لتحيتك..فأنت الإنسان ( ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )...
...عندها تجد نفسك ملزما بالوقوف لتحيتها بكل خشوع وإجلال ..
(وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا )...التحية هي التحية. .كل ما في هذا الوجود يتبادل التحايا. .قانون السماء يطلب منك أن تبادر بالتحية. .مع الإنسان والحيوان. .مع الهواء والماء. .مع الشجر والحجر..وأما إذا سبقك الآخر بها فعليك أن ترد هذه التحية بأحسن منها أو مثلها بالحد اﻷدنى. .ففي يوم القيامة هنا ميزان خاص بالتحية. .فالإنسان سيحاسب على تحاياه ردا أو ابتداءا..( كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)...فالسلام ورد السلام من العبادات مثلها مثل الصلاة والصوم. ..النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول.. (أمرت بمدارات الناس كما أمرت بالفرائض)....
تحية وترحيب دافئ من قبل صاحبة البيت الذي استأجرناه ...كان هو السؤال الثالث مع صاحبة البيت . .الأول عن الوقت المحدد للمغادرة. .. الثاني أين نضع الزبالة بعد فرزها (هذه فريضة من الفرائض المهمة عندهم)...أما السؤال الثالث والمهم بل الأهم. .فكان .. هل هناك في هذه المنطقة مسارات خاصة لممارسة المشي؟؟. ..ابتسمت ..قالت انظر لي ماذا ترى.. ها أنا مستعدة لممارسة هوايتي اليومية "المشي "...المشي عافية للبدن وصحة للنفس. ..هنا في منطقتنا أكثر من 160 كيلومتر من المسارات المخصصة للمشي. .أردت أن أعبر لها عن فرحتي بهذا الخبر بأكثر من إبتسامة. .وترديد. .(جيد..جيد)..نعم كانت فرحتي كبيرة بهذا الخبر وكأني فزت ببطاقة يانصيب قيمتها 160 مليون دولار. ...قد يراها البعض مبالغة. .ولكن النفس السعيدة لها الحق أن تذهب بعيدا في خيالها والتعبير عن سعادتها ... (أعذب الشعر أكذبه)..فهل عندما ينقلب الحلم إلى واقع تنكشف الحقيقة. .الله العالم. ..ولكن وجود هذا الكم الكبير من المسارات المخصصة للمشي يشعرك بأنك الان محاط من كل جانب بالمشائين..وما احلاهم. .
(اللهم اجعل لي في أمامي نور وفي خلفي نور وعن يميني نور وعن شمالي نور)...
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال.. (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)..فالمشائين هم أهل نور....
.ألم يقل هنري تورو بأن المشي هو "ثروة باذخة"...نعم انها ثروة أن تكون في مكان محاط بمشائين..
(لو كان التأمل في الطبيعة دينا لكان المشي أهم طقوسه)....ربيكا سولنت في كتابها المشي وتاريخ الحضارات. ...
نعم ان المشي ثروة ..بل هو أكثر من ثروة..هو فلسفة والفلسفة هي طلب الحكمة ..وياترى ماذا تعطي الحكمة لصاحبها. .
( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )...وراء الحكمة كل الخير. .فالكثير من الخير عند الله هو كل الخير. .ولكن من يتذكر هذا الخير ومن يسعى إليه. .وهل هو متاح لكل الناس. . (مَن يَشَاءُ)..هو متاح لمن أراد. .هو متاح لكل من يستثمر عقله (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )..وكما قال ديكارت.. (ليس كافيا أن تمتلك عقلا جيدا فالمهم أن تستخدمه جيدا)..فأكثر الناس تمتلك عقولا جيدة ولكن هل تستثمرها (وَمَا يَذَّكَّرُ)..إنما يستثمرها الحكماء. ( إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )..والفلاسفة هم عشاق الحكمة. .وهم من طلابها. .
لعل اخر الكتب التي كتبت عن المشي ..ليس فقط عن المشي ..بل عن المشي كفعل فلسفي ..هو كتاب (المشي فلسفة) للفيلسوف الفرنسي فريدرك غروز ..في هذا الكتاب يذكرنا غروز بكل المشائين من الفلاسفة والعلماء والفنانين..يذكرنا غروز في كتابه بالحكماء اليونانيين. .نعم فلاسفة اليونان وحكمائهم كانوا مشائين من الدرجة اﻷولى. .سقراط كان ينطق بالحكمة وهو يمشي...ارسطو هو الآخر من المشائين. .في اليونان كانت هناك مدرسة فلسفية متكاملة الأركان سميت بالمشي.( المدرسة المشّائيّة).... .(الرواقيون) .الرواقيون...ألمشاؤون هم سادة فلاسفة المشي...مارسوا كل فلسفتهم أثناء المشي وفي أروقة مدرستهم .كانوا ينظرون ﻷفكارهم وهم يمشون. .يتكلمون. .يناقشون. .يطرحون أسئلتهم. ..يجيبون عليها وكل ذلك وهم يمشون. ..
كان المشي هو وسيلتهم لتحريك عقولهم. ..كانوا يعتقدون ان المشي والتفكر متلازمان وهذا ما قالته لاحقا كاتبة التأريخ الامريكي الحديث ربيكا سولنت...(المشي والتفكر متلازمان في حياة الإنسان ككائن مفكر)....وهذا ربما ما أحس به جان جاك روسو عندما قال .. (ذهني يعمل فقط عندما أمشي )... (أستطيع التفكير والتأمل فقط عندما امشي)...هل المشي هو الذي صنع عقل روسو ليجعل منه أهم فلاسفة عصر العقل في أوربا. ..هل المشي هو الذي صنع عقل روسو. ..وعقل روسو هو الذي نظر ووضع الأسس للثورة الفرنسية. .المشي يصنع العقل ..والعقل يصنع التغيير. .فجان جاك روسو أراد أولا أن يهذب نفسه قبل أن يدعو مجتمعه إلى تهذيب أخلاقه. .فكان المشي الحر في الطبيعة هو أفضل طريقة في رأيه لتحقيق هذا الأمر. ..إذا المشي يهذب الأخلاق. .فماذا عن الأمة التي تكره المشي. .هل هي أمة متوترة ومترهلة في أخلاقها. .؟؟
إذا المشي أداة من أدوات التغيير الإيجابي للنفس. .فالمشي بين أحضان الطبيعة يعزز في الإنسان إنسانيته. .فمثلاً المهاتما غاندي كان من المشائين. ..كان يمشي يوميا أكثر من 15 كيلومتر..وفي المشي اكتشف غاندي قيمة السلام وعندما كان يمشي تعرف الى منهج السلام. .اكتشف غاندي في المشي كراهية الطبيعة للعنف...فصار مثلها كأرها للعنف محبا للسلام .وبعد أن صنع غاندي شخصيته بالمشي. .صنع شخصية عندها إرادة التغيير. .ولكنه تغيير بأدوات سلمية. .تغيير من غير عنف. .وعندما حضرت الظروف ﻷنطلاق حركته السياسية كان المشي حاضرا بقوة. .فكان المشي في مسيرة الملح هو الوقود لها .وهكذا يصنع المشي.. ساهم في صناعة غاندي كقائد عظيم للهند. .وبصناعة القائد يكون المشي قد ساهم في تحرير واستقلال الهند. ..
هل كان المشي يساعد الإنسان على التأمل في نفسه. .هناك الكثير من الامور التي تنطوي عليها نفس الإنسان. .والمشي خصوصاً بين الوديان والجبال والأشجار تساعد الإنسان أن يهاجر إلى داخله..هي هجرة يحتاجها الإنسان ليتحاور مع ذاته..ولعله يهذه الهجرة يكتشف الكثير ما في داخله. .هذا ما حصل للفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه الذي كان لا يعرف أن يفكر إلا وهو يمشي...لا بل قضى معظم حياته سائرا على الاقدام. حتى ان جان بول سارتر قال عنه. . (نيتشه هو أكبر مشاء في تاريخ الفكر)....
في وقت ما كان نيتشه يبحث عن فكرة ارهقه التفكير بها..في كل مرة يمشي كان يفكر بها. .هذا هو ديدن المفكرين تظل الفكرة تشغلهم حتى وهم نيام .يفكر بها حتى يجدها فيمسك بها. .وفيلسوفنا نيتشه وجد فكرته التي كان يبحث عنها في إحدى مرات مشيه فخر راكعا على ركبتيه وهو يردد لقد وجدتها. .هل هو شكر للإله الذي أعلن عن موته...من الذي ألهمه هذه الفكرة؟.. هل هو ذلك الإله الذي قال عنه أنه اكبر كذبة صدقها الإنسان. . هل المشي وخصوصاً في الطبيعة تعيد الإنسان إلى رشده فيرى الله... (الإمام الحسين: عميت عين لا تراك). مرة أخرى يتبين لنا أن جسد الإنسان ليس بآلة ميكانيكية ولذلك فإن المشي هو أكثر من حركة... .ولعل الماشي يفكر بقدميه مثلما يفكر بدماغه. .
أما كانط صاحب الكتاب المشهور. .نقد العقل الخالص. .فهو الآخر كان من المشائين. .كانط كان يمشي ولكن كان مشيه رتيبا ومكررا. .البداية والنهاية هي نفسها في كل مرة. .الزمن نفسه والمسافة هي نفسها. .مرة أو مرتان نسي المشي. .في الأولى كان مستغرقا في قراءة كتاب أحبه كثيرا. .وفي الثانية كان إندلاع الثورة الفرنسية التي كان هو من المنظرين لها فكريا. ..
هل كان عقل كانط المنضبط هو وراء انضباطه في المشي. .أم أن انضباطه في المشي هو الذي أنتج له عقلا منضبطا. .أم أن كلاهما اشتركا في صياغة شخصية كانط العقلانية. ..لست أدري وإن كنت أرجح المشي....
وماذا عن آينشتاين.. (العالم والفيلسوف ).. صاحب النظرية النسبية . .وهي من أعظم النظريات التي توصل لها الانسان وغيرت وجه العلم والعالم. .إنما خطرت على بال أينشتاين عندما كان يمشي. .عقل آينشتاين الجبار الذي كان يعادل في تفكيره وكفاءته الملايين من عقول الناس أحتاج إلى المشي ليكتشف أن الزمن حقيقة نسبية. .وبذلك صار لهذا الكون بعدا رابعاً. ..بهذا البعد الرابع اقترب الإنسان أكثر في معرفته للكون. .. (اللهم ارزقني من لدنك علماً يقربني إليك)... .ولكن يا ترى هل هذه الأبعاد الأربعة هي كل أبعاد الكون.. هل ندري كم هي ابعاد هذا الكون؟
(وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)....
هكذا صار للكون أربعة أبعاد. . والعلم يجتهد ﻷكتشاف أبعاد أخرى. ..وكذلك هو المشي لع أبعاد متعددة. .الفيلسوف يكتشف البعض منها. .والعرفاني يكتشف بروحه أبعاد للمشي لا يراها الفيلسوف. .والأنبياء لهم في المشي كشوفاتهم النورانية
نعم ان المشي ثروة فلسفية يجعل الإنسان يفكر بعمق في حقيقة الأشياء ..والمشي هو طاقة تعزز صحة الإنسان البدنية والنفسية. ..فكما قال (أبو الطب) أبقراط ...(المشي أفضل علاج للإنسان)...
وكما كان المشي فلسفة. .فالمشي هو تجربة عرفانية فريدة..لأن المشي وخصوصاً في أحضان الطبيعة يجعل الإنسان يتأمل في ما حوله..المشي يدخله في حوار صامت مع نفسه. .فالحياة ايقاعها متسارع وقد لا تدع للإنسان الفرصة للتأمل وبذلك يضيع عليه ما في التأمل من حكمة وعرفان. .فالمشيء يبطأ من سرعة وتيرة الحياة ليسمح للإنسان أن يتأمل في هذا الوجود الرهيب. .
فإذا كان زكاة العلم نشره. .وإذا كان زكاة المال الإنفاق منه. ..فإن زكاة الطبيعة المشي فيها...
ولعل المشي هو أول عبادة عرفها الإنسان. .فأبليس جاء ﻷبونا أدم وأمنا حواء وهما يمشيان في الجنة. .فصلاة الإنسان في الجنة هي المشي ..فالإنسان كلما مشى رأى من عجائب خلق الله ونعمه. .وهناك في الجنة تعلم الإنسان أن الشيطان لا يأتيه وهو جالس بل يأتيه عندما يمشي ..يأتيه وهو يمشي باحثا عن رزقه من ربه. . (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه)...فهو حتى عندما يقف ليصلي ..إنما يصلي هذه الصلاة ليستريح ثم يعاود المشي. . هذا ما كان يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان ينادي على بلال بالأذان. ...( يا بلال أقم الصلاة أرحنا) كان النبي يريد أن يستريح وان يستقوي بالصلاة .. (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ).. لمعاودة عبادته في المشي متنقلا بين الناس يدعو إلى الله...كان (محمد) يعرف ما يريده الله منه. .فهناك ما هو أكبر وأكبر من الصلاة. .وهو ذكر الله... .
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ)...
فكان المشي جزء من نهج رسول الله في الدعوة إلى الله. .وجاءت العبادات لتترجم هذا النهج. ..فالمشي إلى الصلاة في المسجد صار جزء من الصلاة. .فهو عبادة ولصاحبه ثواب. ..
(إذا نودي بالصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا).....
والحج الذي هو فخر العبادات كلها ..هو عبادة المشي. .تطوف حول الكعبة مشيا. .عبادة المشي في البيت الحرام هي أفضل عبادة. .الطواف (المشي) حول الكعبة أفضل عند الله من الصلاة. .السعي بين الصفا والمروة هو تسيبح وتكبير يلهج به الإنسان وهو يمشي. ..
حتى عندما أذن أبراهيم للحج. .كانت دعوته أولا للمشائين. ..
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا)...مشائين لا ركبانا. ..
هكذا عرف الإنسان عبادة المشي..من الأنبياء والمرسلين إلى الأولياء والعارفين...كل هؤلاء ملكوا الأرض بمشيهم. .حولوها إلى مسجد بأقدامهم وطهروا نفوسهم بما علق من ترابها باصأبعهم. ..وسموا أنفسهم بأسمائها (أبا تراب)..
(جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)....
. ..فهذا جلال الدين الرومي الذي يسبح حكمة وعرفان بأصابع قدمه يقول.. (عندما أحس بالحزن ابدأ بالمشي)..وما أكثر ما يحس به الإنسان من حزن في هذه الدنيا. .في الجنة ليس هناك حزن ولا هموم. ..
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)...فهل المشي هو ذلك السر في عدم وجود الحزن في الجنة. .فالإنسان في الجنة كيف له أن يحزن وهو يمشي في جنة عرضها السموات والأرض. ..
(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)....كيف له أن يجلس وعنده مثل هذه الجنة الواسعة. .فمتى يرى نعم الله في الجنة إذا لم يمشي ويمشي ويمشي. ...فلعل العبادة الوحيدة في الجنة هي المشي..
فمن أذنب فليستغفر ذنبه بالمشي...ومن اخطأ فليكفر عن خطأه بالمشي. .ومن أحس بالاكتئاب فليطرده بالمشي. ..ومن يشعر بالملل فليمسحه بركعتين صلاة بعدها يتنفل بالمشي. ..ومن وجد نفسه غاضبا ومتوترا فليجر شيطانه إلى اقرب مكان فيمشي هناك ..فالشياطين تهرب من المشائين. ..
ويوم القيامة. .يحتشد الناس عند الصراط. ..من كان مشاءا في الدنيا. .من علم أصابع قدمه عبادة المشي في الدنيا فهي اليوم تعرف الصراط والصراط يعرفها. .تعرف كيف تخطو خطواتها على الصراط المستقيم. .فالصراط لا يسمح بالعبور عليه إلا من شكر نعمة المشي. .
( صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ )...
فمن علمه المشي عدم الغضب فهو غير مغضوب عليه في هذا اليوم.. (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ )....ومن تعلم في المشي ان التفكر في الله (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ)
هو طريق الهداية فهو اليوم يعرف كيف يمشي على الصراط. .فهو اليوم ليس من الضالين (وَلاَ الضَّالِّينَ)...
والشاكر هو من علم أصابع قدمه الحمد والتسبيح في المشي...
فأهل الجنة يعبرون اليها مشيا. . ويدخلونها مشيا...وعند أبواب الجنة توزع الصكوك. .فجنتك بعدد خطوات مشيك في الدنيا. ..والحسنة بعشرة أمثالها. ..
(مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)...فخطوة واحدة من المشي في الدنيا بعشرة أمتار ربانية في الجنة. ..والمتر الرباني. .
... (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ )....وإذا كانت السنة الضوئية تساوى (9,500,000,000,000) كيلومتر...والله يضاعف لمن يشاء. .
(وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)..عندها يتذكر الإنسان تلك الآية الكريمة التي كان يتغنى وهو يمشي بين أحضان الطبيعة. ..
( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)...فاليوم يرى هذه الآية الكريمة ويرى الجنة على حقيقتها..
(فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)..
يرى الجنة بكل هذا الوسع. .الله واسع وجنة الله واسعة. .فإذا كان المشي في جنة الأرض بكل هذه المتعة ...فكيف سيكون المشي في جنة الآخرة. .هنيئا لأهل الجنة وهم يمشون بين أنهارها. .وعيونها. ..وأشجارها...
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (00) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)....
ختاماً. ..هذا هو المشي. .لا يكتشف حقيقته إلا من يمشي. ..ولا يغامر بالمشي إلا العارف بحقيقته ..
في أمان الله لقد حان وقت الصلاة. .الغابة فتحت أبوابها والشمس اضائت مصابيحها. .والعصافير رفعت اذانها. .والأشجار اصطفت ﻷداء الصلاة...
(المشي له أبعاد متعددة. .الفيلسوف يكتشف البعض منها. .والعرفاني يكتشف بروحه أبعاد للمشي لا يراها الفيلسوف. .والأنبياء لهم في المشي كشوفاتهم النورانية...)...
أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ
فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
اترك تعليقك